ربيع جابر صياد الحكايات

كمال الرياحي
rabee_jaber

“دروز بلغراد” هي الرواية السادسة عشرة في مدونة الروائي اللبناني ربيع جابر، الذي وطأت قدمه الأربعين أخيرا، وهذا التراكم في الأعمال الرو
ائية يجعله الكاتب الأكثر غزارة في المشهد الروائي، وإذا أضفنا إلى تلك الغزارة قيمة ما يكتبه ونضجه الفني أصبحنا أمام ظاهرة أدبية فريدة في عالمنا العربي. هذا دون أن نغفل حجم تلك الأعمال الروائية التي بدت في السنوات الأخيرة ضخمة تناهز الستمائة صفحة أحيانا.

بدا لي أن صاحب “تقرير ميلس” على موهبته الكبيرة، التي لا يشك فيها اثنان، محظوظا بظهوره في لبنان، لأمرين أولا وجوده في فضاء نموذجي للنشر، حيث تستقر أهم دور النشر العربية وأكثرها شهرة ووجود أعرق الصحف ووسائل الإعلام العربية وأكثرها تأثيرا، وثانيا الاحتضان الذي استقبلت به موهبته داخل المشهد اللبناني نفسه.
وكثيرا ما حدثني بعض اللبنانيين عن عبقريته وعن رؤيتهم له كمستقبل للرواية اللبنانية، وهو ما أكدته الأيام. وهذا الاستقبال يبدو غائبا تماما أو معكوسا للمواهب في دول عربية أخرى حيث يحاول سدنة المشهد الروائي هناك أن يقبروا الموهبة سريعا ولجمها والعمل على تسطيحها وإقحامها داخل “شللية” قاتلة أو حزبية مقيتة، وهذا أحد ميكانزمات النظم الشمولية في العالم العربي.

وتبقى لبنان البلد العربي الوحيد الذي يعيش حالة من حالات الديمقراطية والتعددية. هذا إلى جانب شخصية صاحب “يوسف الإنجليزي” التي عمل على أن تكون متميزة بخصوصيتها بإبعادها عما رآه ربما إسرافا في تبذير الطاقات، فحواراته قليلة وظهوره الإعلامي أقل رغم اشتغاله بالصحافة، ولا يتردد في التغيب حتى عن حفل توزيع الجوائز نفسها كما فعل في “بيروت 39”.
المشروع الروائي
تمضي الكتابة عند ربيع جابر في خطاها حثيثة وثابتة، فلا تكاد تنتهي سنة واحدة إلا وخرج علينا الروائي بعمل جديد. بل إنه في بعض السنوات نشر له أكثر من عمل. ونرجع هذه الوتيرة المنتظمة إلى تعامل الكاتب بحرفية عرفناها عند الكتاب الكبار المحترفين، كالكتابة اليومية والتزامهم بعدد من الكلمات يكتبونها يوميا، لا شكلا طقوسيا، إنما وعيا بأن الكتابة فعل يومي للكاتب الحق، وصناعة تحتاج كل يوم إلى تطوير ومراجعة.
والأمر الثاني أن ربيع جابر حدد مشروعه الروائي منذ سنوات بتركيزه داخل مناخ واضح، وهو التاريخ اللبناني القريب والبعيد. ومن ثمة حدد طريقه وأبعد عنه كل ما قد يشوش المبدع من شطحات الخيال المنفلت. هكذا يبقى على الكاتب بعد أن حدد مشروعه العمل على ابتكار المأزق، كما يقول سليم بركات، وبناء الشخصيات التي ستؤثث الفكرة وتعيد تشكيلها في شكل حكي.
ولئن بدت الرواية عند ربيع جابر بعيدة عن التجريب وتمضي في اتجاه لغة واقعية براغماتية هدفه الحكي ولا شيء غير الحكي، قصص داخل قصص كالدمى الروسية، فإنه حتى الروايات القليلة التي حاول فيها أن يعطي لروايته طابعا خاصا بتوظيفه للتراث السردي، لم يخن مشروعه العام، وهو المزيد من الحكي. حتى ينهض الحكي عند ربيع جابر كفعل شبقي لا يهدأ، فتتوالد القصص من بعضها وتتعاظم شهوة القص حتى نخال أن لا نهاية لهذا الدفق من الحكايات.

رواية المكان
يلاحظ الناظر في عناوين روايات ربيع جابر ذكاء كبيرا في اختيار هذه العتبة النصية، التي تمثل الصلة الأولى التي يربطها الكاتب بالمتلقي، فيعمل في منجزها الأخير على دغدغة المشترك بينه وبين القارئ بعنوان يحيله على مكان بعينه مثل “بيروت مدينة العالم” أو “بيريتوس”، أو على حدث أو جدل ما كـ”تقرير ميلس”، أو كتاب قديم “رحلة الغرناطي”، أو على التباس بين كتاب كافكا ومكان معلوم كما في “أمريكا”، أو على لعب ومخاتلة بين عنوان فيلم وعنوان رواية كما هو الحال في “يوسف الإنجليزي” بعد شهرة فيلم “المريض الإنجليزي” وهذه العناوين مثلت واحدة من نجاحات الروائي.

ويكاد المشروع الروائي عند ربيع جابر يلتف حول ذاته والتاريخ، ليعيد تشكيل هويته كسيرٍ للأمكنة، فكل رواياته تقريبا احتفال بالمكان من بيروت إلى أميركا إلى بلغراد. أمكنة صغرى، مراكب وعمارات وأكواخ ودهاليز تنبت فيها الحكايات.

ولكن ما يلفت في كتابات ربيع جابر للمكان هو ذلك الانشداد لبيروت على الرغم من انفلات نصه في أقاصي الدنيا، فبيروت عنده هي المرساة التي تشد إليها الزوارق والسفن بعد أن تعود من سفرها المجنون، فتهدأ لتقلع من جديد نحو أرض أخرى تقطف منها الحكايات ثم تعود إلى ميناء بيروت لتأخذ أنفاسها من جديد استعدادا لرحلة جديدة.
جابر والبوكر
لم يكن مستبعدا أن تفوز رواية ربيع جابر “دروز بلغراد” بجائزة البوكر لهذا العام، فقد سبق أن رُشّح بقوة في دورة سابقة بروايته “أمريكا” عام 2010، وفاز قبل وقت بجائزة “بيروت 39” لأفضل الكتاب العرب دون سن الأربعين.
وقبل إعلان النتائج وبعيد الإعلان عن القائمة القصيرة بدت المنافسة واضحة بين نصين لا ثالث لهما، وهما “دروز بلغراد” لربيع جابر و”شريد المنازل” لمواطنه جبور الدويهي، الذي سبق أن كانت روايته “مطر حزيران” ضمن القائمة القصيرة في دورة سابقة.
ومن الطريف أن الروايتين تستلهمان التاريخ اللبناني والحرب الأهلية. ولئن كانت الحرب التي تحدثت عنها رواية جبور الدويهي هي الحرب الأهلية الأخيرة التي وقعت في أبريل/نيسان 1975 وما بعدها، فإن صاحب رواية “بيروت مدينة العالم” قد عاد بالتاريخ إلى أحداث حرب أهلية أخرى جرت سنة 1860 بين الدروز والمسيحيين. وتتماس الروايتان في طرقهما لمشكلة الهوية والصراع الطائفي، إما بين المسيحيين والمسلمين عند جبور الدويهي، وإما بين الدروز والمسيحيين عند كاتب “أمريكا”.
والحق أن تيمة الحرب مثلت المناخ الأكثر تكررا في الأعمال الروائية اللبنانية، فلا يمكن أن نقرأ مدونة حنان الشيخ مثلا أو رشيد الضعيف أو هدى بركات دون أن نكون في قلب الحرب الأهلية اللبنانية وما خلفته من مآس وجروح عميقة للذات الكاتبة والشخصيات الروائية.

وأحسب أن الحرب الأهلية اللبنانية كانت أكثر الأزمات العربية إلهاما للأدب وساهمت في ظهور العديد من الأعمال الراقية والأصوات المتميزة التي قاربت تيمة الحرب. ولم يكن ربيع جابر إلا واحدا من هذا المشهد الروائي اللبناني الذي جعل من التاريخ اللبناني مناخا لمشروعه الإبداعي.
الهامشي ومأزق الإنسان
يمثل الهامشي في روايته الجديدة الفائزة ببوكر 2012 العنصر الرئيسي في الرواية، فبائع البيض المسلوق الذي رمت به الصدف ليكون أسيرا ومنفيا مع المنفيين من المقاتلين الدروز إلى بلغراد فيتحول إلى بطل تراجيدي في رواية تبدو أنها تعيد كتابة التاريخ. ومقطع من مقاطع الحرب الثالثة.
يخلق الروائي المأزق ويدخل الإنساني ضمن التاريخي والمسطور والمعروف والمتداول. وداخل هذا البشر الذي ينضح بالعدم، والذي يعيش على الحافة وفي الطرة مثل الهامش أو الحاشية تنبع الحكاية الأكثر تشويقا، التي ستنسينا سطوة الاسم الذي ظهر على الغلاف “دروز بغراد”. لنجد أنفسنا مع التقدم في الرواية أمام دون كيشوت لبناني تضعه الصدف وحيدا يصارع طواحين الريح.
ينهض الاغتراب والغربة والنفي كمواضيع أثيرة عند صاحب “يوسف الإنجليزي”، يمكنك أن تلتقطها في “رالف رزقه الله في المرآة” أو في “الفراشة الزرقاء” أو في “رحلة الغرناطي” أو في “أمريكا”. كل شخصياته تعيش أزمة مع الحياة وأزمة مع الفضاء. منزوعة هي من أرضها ومزروعة في أرض أخرى.
كذا اُنتزع حنا يعقوب -بطل “دروز بلغراد”- من عالمه وأشيائه البسيطة، فكسر بيضه السرد، ورمي به إلى المنفى ليزرع في أرض ليست أرضه ويقضي مصيرا جُهّز لغيره. لتعكس حكاية حنا يعقوب هشاشة الإنسان في ظل سطوة الواقع ومكايده، فلا أحد يعلم مصيره متى غادر بيته.
إن المتأمل في نصوص جابر يلاحظ أنها تنادي بعضها وتمهد لبعضها البعض، فرواية “دروز بلغراد” كانت تجهز في ذهن الروائي منذ سنوات، عندما كان يكتب “الفراشة الزرقاء”، التي يقول فيها الراوي متحدثا عن جبل لبنان والحروب التي عرفها: “وبعد الحرب الثالثة نفي مئات الدروز إلى طرابلس الغرب وإلى بلغراد…”، من كان يتصور أن هذه الجملة التقريرية التائهة ضمن رواية “الفراشة الزرقاء” ستكون كل عالم رواية “دروز بلغراد” بعد سنوات؟
يؤكد جابر أنه اتخذ قراره في نسج مشهد روائي مخصوص بخلفية تاريخية لبنانية، ولكن المتأمل أكثر في هذه المدونة سيكتشف أن الوثيقة التاريخية والحدث التاريخي ليس في النهاية إلا ذريعة للحكي وقادحا للتخييل، ومن هنا جاء تميز ربيع جابر: صيّاد الحكايات. ويبقى السؤال إلى متى سيصمد هذا المشروع ويحافظ على ألقه وبريقه في حقل الكتابة التخييلية التي تعوّل دائما على الإدهاش خيطا سحريا يأسر به الكاتب قراءه؟
______________

هذا المنشور نشر في غير مصنف. حفظ الرابط الثابت.

أضف تعليق