يومياتي مع الكورونا عزيز اليحياوي

١٨/٣/٢٠٢٠
إنَّ عقلي يطير، يطير ويختفي بعيدًا، يا أيّها الربُّ لمَ كلُ هذه الأسئلة! لقد غَزتْ مدنَ الطمأنينة فيَّ وجعلت من وقتي كابوسًا مقلقًا. اليوم نظرت في المرآة وتساءىلت هل فعلاً أصبح الوضع جديًّا!؟، هل نحن بصدد الانتقال إلى بيت الحقيقة الشفّافة، هناك في ذلك البيت كل شيء معجون بروح الخوف، بروح الوقت الحاسم، لا مكان للمزاح، لا مكان للتستّر والفرار نحو طرق ألفنا المشي فيها، هناك العراء الحقيقي، العراء الحقيقي الشامل فقط. أزحت وجهي عن المرآة، لا أحبّ المرآة لأنّها تذكّرني بتفاصيل وجهي المتعبة ولأنّها أيضًا تدخلني عنوة عالم السؤال اللعين، لأول مرة أحسّ باختناق وانقباض أمامها، أحس كما لو أنّني حشرة ضىءيلة في أرض العالم تحاصرها بلوّرة مستديرة قاسية. وجدت نفسي بعد قليل في وسط مدينتي، أمشي، أمشي كالعاطلين عن الحياة دون تحديد وجهة فقط لغاية المشي. الأشياء كلّها تدل فعلا على أنّ الأمر تغير، تقول الأشياء لي: يا عزيز استسلم وواجه هذا الطقسَ الجديد إنكّ حقا أبله وعاطفي حدّ السخافة. المدينة خالية إلا من بعض الشياطين الآدمية والسيارات المارة المضطربة، أرى المدينة هذه المرة على حقيقتها، أرى قلبها بوضوح، قلب غارق في زيوت خلفّتها معصرة الوقت الرديئة. لم أستطع أن أفهم ما يحصل ما يحصل أمام عينيَّ وقلبي، الساعة الثامنة والمدينة في نوم مخوف، يتسارع الآباء والفتيان الصغار إلى شراء الخبز بلهفة ملحّة، بلهفة يكتنفها الرجاء الواسع. الشباب المولعون بالخروج عن القوانين، أمام المقاهي المغلقة وقد ازدادت شراهتم نحو الحشيش والعصيان المطلق، الدولة تقرر ان تغلق المقاهي وهم بكل تحدٍ قوي يقفون أمامها، أهي إشارة أنّ الحياة مع هؤلاء غدت محض خيال أزرقَ، أصار التمرّد الشاذ شعورا بالفوز والنشوة نكاية بالموت، الموت عند هؤلاء مجرد مجهول عادي حدّ الرتابة.
أكاد ألمس القلقَ، أراه على الجدران، على الأرصفة السوداء، على مؤخرات الموميسات الشريفات، أراه بين قطتين تتخاصمان حول ما تبقّى من أمعاء الدجاج المتعفنة، بين عصفورين يتساءلان عن اختفاء الديدان العملاقة المغطاة بقشّ ملون، أرى القلق في قلب رجل مسنٍّ يلعن الله وأبناءه وفي قلب طفل حُرم من التمرّغ في الشارع فتفوّه لأول مرة بكلمة محرّمة وقرر أنْ يذهب إلى التواليت لكي يجرّب شيئا ما.
أمشي والأرض تهتز بي، جسدي غير معتاد بهذه المشية الثقيلة الجوفاء، البطء يفسّر تقشّفَ الرغبة، تقلّصَ الدفء والإمتلاء العفوي.
قررت أن أعود إلى المنزل، يجب أن أذهب قبل أن تنكحني الوحشة، أخاف المقابرَ ليلًا والمدينة الآن مقبرةٌ لا جثثَ فيها ولا أشباح، مقبرة خالية من رائحة الموت العادية، لربما هو موت آخر، استراحة وعودة إلى البدائية الوحشيّة القاتلة، هنا أحسّ بضرورة وجود الآخر البعيد، أحتاج وجوده ليشتمني وأشتمه، لكي يضحك على طيبتي ثمّ يقول لي كفى! اغرب عن وجهي!
لا أجد أحدًا في طريقي الطويل إلى البيت، سوى الظلّ صديق الضوء الخائن يتتبع خطواتي المرتعشة،
قبل أن أنام قلت وأنا أقبّل الوسادة الزرقاء تبًا لهذا العالم.