الإغراب في الـ”البيريتا يكسب دائما” لـ: كمال الرّياحي.

قرأنا رواية كمال الرّياحي الجديدة فأغرتنا بالكتابة عنها مباحث عديدة منها التعدّد الصّوتي ومنها حضور الرّوائيّ والتّاريخي ومنها وجوه المسكوت عنه … ولكنّ الجانب الذي ألحّ علينا كان المتعلّق بما في الرّواية عنوانًا وبنيةً وشخصياتٍ وسلوكًا من إغراب اجتهدنا في رصده وإثباته وتحليله ونقاشه.


عبّـاس سليمان/ تونس لعلّه أصبح ممكنا القول إنّ الرّواية العربيّة استطاعت بعد مرحلة من الطّفولة والارتباك والهشاشة أن تكسب لها موقع قدم حقيقيّ ضمن مواقع الإبداع المختلفة وأن تصوغ لها هويّة تختلف بها إنشاء وتقبّلا على الأجناس الأدبيّة الأخرى.

وقد اقتضت معركة التّأصيل والثّبوت سعيا دؤوبا جريئا أحيانا نحــــــــــــــــــــــــــــو التطوّر والنّضج
والإدهاش على مستوييْ المبنى والمعنى، فانفتح هذا الطّيف من السّرد على الرّواية العالميّة وعلى مختلف الفنون الأخرى بغاية الاستفادة والتّوظيف والمنافسة، وتوسّل بلغة الشّعر وبلغة القرآن وخطاب الإعلام ونصوص الأساطير مستفيدا من طابع المرونة الذي هو من أهمّ صفاته ساعيا من وراء ذلك كلّه إلى ولادة جديدة مختلفة في كلّ مرّة ومعلنا رفض التّقولب والنّمطيّة والتحجّر ومصمّما على خوض التّجريب والتّجويد وارتكاب إثم التّمرّد والاختلاف ومغادرة الخطابات التي تحكي لمجرّد إنشاء حكاية والتي تعظ وتعلّم وتؤرّخ وتكتفي بإعادة سرد ما يعرفه القارئ ويلمّ به أحيانا أكثر ممّا يلمّ به الكاتب نفسه. ” ذلك أنّ الرّواية التقليديّة لم تعد بالنّسبة إلى السّاخطين مقنعة، فهي خطاب هادئ ورصين ومجمل مكوّناتها مجرّد صنعة وبراعة خارجيّة” (1)
وقد مثّلت رواية الغرب سندا للثّائرين على التّقليد الرّاغبين في فكّ الارتباط بين الرّواية والإطناب في الوصف وفي مراكمة الأحداث وفي الانضباط إلى زمن خطّيّ وفي الاهتمام المبالَغ فيه بحسن ترصيف الكلام وتنميقه وفي دفع الأحداث دفعا تدرجيّا نحو خواتم مقدَّرة لها فــــــــ” قواعد الرّواية التّــقليديّة الماثلة في بنيتها الفنّية صارت عبئا على الرّوائيّين الطّامحين إلى الجديد، ورأوا فيها قيدا يكبّل الكاتب بدل الانطلاق في رحاب الخيال للإبداع بمعزل عن القواعد وسلامتها، إذ المهمّ الإبداع لا الصّناعة لإظهار الولاء للسّائد والتمكّن من تجسيده وإعادته ولو كان ذلك جمودا صُراحًا ” (2).
كان إذًا من نتائج رفض القديم والطّموح نحو رواية تُضاهي الرّواية الغربيّة في بنائها الفنّي وفي مدارات سردها وفي فوضاها وفي بحثها المستمرّ عن الإرباك والإدهاش والإغراب والإثارة وتكسير المتعاهَد عليه ومخاتلة أفق انتظار القارئ أن ظهرت نصوص روائيّة حديثة أدرجها إدوارد خرّاط تحت مسمّى رواية الحساسيّة الجديدة وأسماها بوشوشة بوجمعة رواية التّجريب وقال عنها آخرون إنّها رواية الحداثة. ليس مهمّا هذا الاختلاف في التّسمية بل المهمّ هو هذا الاتّفاق على ما أصبح يسمّى الرّواية الجديدة في إشارة واضحة إلى أنّ السّرد الرّوائي العربيّ قد غادر التّقليد والقوالب التي اهترأت والبنية الثّابتة والزّمن السّائر في هدوء من بداية معلومة إلى نهاية مكشوفة والسّارد الذي لا ينافسه أحد ولا حتّى شخصيّاته التي ينشئها في المسك بزمام الرّواية في اتّجاهٍ نحو قول العالم الجديد بما يعتمل فيه من فوضى ومن اختلاف ومن تعدّد ومن هذيان ومن غريب ومن عجيب ومن واقع يفوق أحيانا الغريب والعجيب ومن خيال لا يكفّ عن التّحليق والإدهاش وفي اتّجاه نحو مخاطبة قارئ أصبح مختلفا ولم تعد تهمّه ولا تستهويه الحكايات ولا أساطير البطولات ولم يعد يحرّكه سرد هادئ مسالمٌ خيوطه منكشفة ولا شيء فيه يربك ويثير السّؤال.
ويعنينا في هذه القراءة أن نتحدّث عن صنف روائيّ نشأ ضمن أصناف التّجديد المختلفة اتُّفِقَ عليه برواية الإغراب أو الرّواية الإغرابيّة، فما الذي تعنيه هذه التّسمية؟
يجدر بنا أن نقدّم تعريفا موجزا لمفهوم الإغراب حتّى يمكننا بعد ذلك أن نترصّده في المتن الذي اخترناه لنشتغل به.
للإغراب (la singularisation) علاقة اشتقاقيّة دلاليّة مع مفهوميْ الغريب والغرابة. وهذه المصطلحات تتّفق ثلاثتها في الدّلالة على عكس المألوف والممجوج والمتعارَف عليه والسّائد وكلّ ما لا يُحدث حين نلقاه أو نقرأه أو نسمعه أيّ صدمة أو أيّ ردّ فعل غير متوقَّع، وبهذا يكون هذا الصّنف من الرّواية مختلفا عن غيره بنسيجه غير المألوف وبشخصيّاته المثيرة للرّيبة والسّؤال وبفضاءاته المتّسمة بالغرابة وبما فيه من أحداث وعلاقات وأصوات لا تمتّ للمتعارف عليه بصلة.
والإغراب بهذا النّحو متعلّق بمفهوم بعينه. وهو لئن اقترب من الخارق والفانتاستيكي والسّحري والخيال العلمي والعجيب والغريب، وهو لئن كان يلتقي في بعض السّمات مع هذه المجالات ومجالات أخرى، فإنّه يظلّ مستقلاّ عنها وبظلّ له ما يميّزه عنها جميعا ويجعله مجال بحث مخصوص:” والإغراب في الرّواية ضرب من التّفرّد والعدول عن المألوف. فهو الأمر الغريب المفاجئ يولّد الاستغراب والغرابة وبواعثه وتجلّياته لا حصر لها. ويظلّ الإغراب في الرّواية هو غير المعهود الذي لا يخرج عـــــــــــــــــــــن دائرة المنطق والعقل.” (3)
ولعلّ المصطلح الوحيد الذي يمكن أن يرادفه هو “الإفراد”، وهو المصطلح الذي استعمله ” توماشفسكي”: B.Tomachevski, “Thématique : le choix du thème“ , in : théorie de la littérature ,op. p. 290
و”الإفراد هو أسلوب خاصّ، به يخرج المعتاد مخرج الغريب، وبه يكون العاديّ غير عاديّ، وبه يصبح ما ليس أدبيّا أدبيّا. فالإفراد يجعل الموضوع الذي يُشتغل به ضمن الإغراب يتغيّر سياقه ويكسبه الصّفة الفنّية….” (4)


ولعلّ ما دعانا إلى استحضار هذا الصّنف من أصناف التّجديد في الرّواية هو اطّلاعنا على رواية كمال الرّياحي الجديدة “البيريتا يكسب دائما” (5) التي لئن بدت منفتحة على آفاق عديدة للنّقد فإنّ ما بدا لنا فيها لافتا وطاغيا ومحفّزا على التّناول هو ما اتّسمت به من وجوه إغرابيّة طالت العنوان وامتدّت إلى بنية الرّواية وشخصيّاتها وأحداثها. والأمل معقود على هذه القراءة لتبيّن هذه الوجوه وتبيّن من وراء ذلك ما في رواية الرّياحي من جدّة وتجديد وخروج عن السّرد البسيط الذي لم يعد يرغب فيه القرّاء ولا النّقّاد والذي لا يمكن تشبيهه بغير الأسود والأبيض في زمن ثورة الألوان أو بغير الهواتف القارّة في وقت الجوّالات التي تضع العالم بين يديْ صاحبها مُتحرّكا متموّجا مباشرا حيّا.
الإغراب في العنوان:
لئن أكّد عنوان الرّواية أنّ الكسب متوفّر حتما (البيريتا يكسب) وأنّه سيدوم (دائما)، ولئن كان يمكن أن نفهم بيسر أنّ عبارة الكسب تحيل على التّجارة وعلى المنافسة وعلى العناد وعلى الإصرار وعلى الحظّ وعلى الحرب أيضا، فإنّ ما بدا إغرابيّا هو هذا “البيريتا” الذي لفّ الغموضُ شكله ومعناه. فأمّا من جهة الشّكل فخروجه عن ألفاظ العربيّة التي بنيت بها بقيّة الجملة فبدا النّشاز واضحا بين المبتدإ وخبره: مبتدأ مستعار من لغة أجنبيّة وخبر مفرداته عربيّة قحّة. يثير العنوان التّسآل والاستغراب ويدفع القارئ إلى البحث عن معنى “البيريتا” ليظلّ الإغراب قائما حتّى بعد أن نتبيّن أنّ “البيريتا” اسم لمسدّس، إذ ما علاقة المسدّس بالكسب؟ وماذا يمكن أن يكسب مسدّس مّا؟ ولماذا استهلّت به الجملة فوضعته في أوّل التّرتيب قبل الكسب الذي التصق به وقبل صفة الدّوام التي التصقت بالكسب؟
“البيريتا يكسب دائما”: عنوان إغرابيّ محفّز على البحث وعلى التّأويل وعلى التّفكير، عنوان ليس من طائفة تلك العناوين المكشوفة التي تهَب أسرارها ومفاتيحها دون جهد، وليس من طائفة عناوين “هيت لك” التي تُؤتى مباشرة وتستهلك دون تدبّر وتدرَك مغازيها ومقاصدها منذ أوّل مصافحة ولا تدوم لذّتها.


البيريتا يكسب دائما: الخبر واضح والمبتدإ لا شيء فيه من الوضوح، إذ ما علاقة المسدّس بالكسب؟ وهل يعدّ القتل كسبا؟ وهل يعدّ ضحابا القتل مكسبا وانتصارا؟ وهل تلاشت القيم والقوانين إلى درجة أنّ القتل بالمسدّس وبغيره أصبح في يوميِّ النّاس يَصحون عليه وينامون؟
سيكون على القارئ أن يطّلع على المتن كاملا وأن يربط بين “البيريتا” والكسب ونوعه ومعناه وأن يبحث عمّن يملك البيريتا وكيف وصل إليه وماذا فعل به وكيف انتهت العلاقة بينه وبينه… سيكون على القارئ أن يترك هدوءه واطمئنانه وحياده وسلبيّته ويأخذ في التّفكير والتّدبّر والتّأويل منذ العنوان. نحن إذًا أمام عتبة رئيسيّة لا تسلمك للمتعة والتّشويق بل للتّفكير والبحث والرّبط والتّوغل في مقاصد الرّاوي ونواياه. نحن أمام عتبة رئيسيّة لا تثير فيك غير الغرابة وهي غرابة لا تردّك عن النصّ إنّما تدفعك إليه ولا تتركك محايدا بل ملحّا في السّؤال وباحثا عن التّأويل ومصمّما على فكّ ما اكتنف الأمر من غموض. هكذا تبدو مزايا اتسام عنوان مّا بالإغراب مبنى ومعنى حافزا على قراءة واعية مفكّرة لا يكون هدفها التّسلية والمتعة بل البحث والحفر في ثنايا النصّ وربط أجزائه المتشظّية بعضها ببعض حتّى إنّ القارئ لَيُصبح شريكا في الكتابة وحتّى إنّ الحدود بين من كتب ومن يتلقّى تمّحي وتتلاشى. يرافقنا الإغراب منذ وقوفنا على العتبة ثمّ إنّه لا يخفت مع دخولنا بيت الرّواية أو متن الرّواية بل هو يزداد إلحاحا وتأثيرا حين نكتشف أنّ آلة من الحديد تدير أهمّ الأحداث وتتحكّم فيها وفي مصائر النّاس وتستأثر لنفسها بالأسرار بل إنّ الآلة استأثرت بالرّواية برمّتها وبأسرار القتلة والمقتولين، ليظلّ كشف من دبّر ومن نفّذ معلّقا بالمجهول. يشتدّ الإغراب هيمنة حين ندرك أنّ القتل كسب وأن لا أحد فكّ لغز القتل، فلعلّ الأمر كان سيكون باهتا وغير إغرابيّ لو فشل البيريتا في مهمّته فطاشت رصاصاته ولم تصب أحدا أو لو أنّ رصاصاته أصابت هدفها ثمّ انكشف أمر من أطلقها وبات معلوما لا يخفى على أحد. ولعلّ الأمر كان سيكون باهتا وغير إغرابيّ لو أنّ كمال الرّياحي أعاد سرد سيرة الاغتيالات التي جرت في تونس إثر الثّورة كما حدثت وكما رواها النّاس وكما حدّث بها الصحفيّون وشهود العيان وروّاد المقاهي وشاشات التّلفزة، أمّا وقد جعل ما ليس أدبيّا أدبيّا، فالإغراب قائم ثابت واضح صريح.

الإغراب في الشخصيّات وسلوكها:
لا يمكن وصف شخصيّة “علي كلاب” بغير الإغراب. “علي كلاب” شخصيّة إغرابيّة يمتد الإغراب فيها من الاسم إلى الجسم إلى الفكر والسّلوك. فالتّركيب الذي ربط بين “علي” من جهة و”كلاب” من جهة أخرى فيه الكثير من الغرابة والسّخرية والغموض. ثمّ إنّ الأمر يزدادا إغرابا لمّا نتفطّن إلى أنّ “علي” مفرد أو واحد فيما الكلاب جمع، فلعلّ الأمر كان سيكون باهتا وعاديّا وغير إغرابيّ لو لُقّبَ “علي” هذا بالـ “كلب”، أمّا أن تُلصق بالمفرد “علي” كلاب كثيرة فيأتي الاسم مفردا واللّقب جمعا فلا شيء في الأمر يمنع عن القارئ الاستغراب والسّؤال ولا شيء ينفي عن واضع العنوان نيّة الاستفزاز والمشاكسة. ومن السّلوك الإغرابيّ أنّ “علي كلاب” ممثّل السّلطة يمتنع عن جدع أنف “يوسف غربال” خوفا من القانون ولكنّه يجرؤ على بتر إبهامه، وهو سلوك لا يرضاه القانون أيضا ولم يستشر فيه “علي كلاب” أحدا من رؤسائه ولم يرض عنه ضبّاطه المغلوبون على أمرهم .
ومن السّلوك الإغرابيّ أن يعمد “علي كلاب” إلى تهشيم ساق أحدهم بهراوة وقطعها لأنّه أفشى أمر مجموعة من مهرّبي الأعضاء: “لكنّي لا يمكن أن أنسى بشاعة المشهد. لقد كنت معه. لقد رفع الهراوة فوق، وهوى على قصبة ساق. مازالت تلك الفرقعة في رأسي. أنت تتخيّل المشهد؟ تتخيّل ما حدث؟ ” (6)
ومن سلوك “علي كلاب” الإغرابيّ أن يأمر الشّابّ الذي كان يبيع خبز التّنور على بعد سبعة كيلومترات من الحدود التّونسيّة الجزائريّة أن يحشو ثعبانا في لفافة خبز ويأكله: “ظلّ “علي كلاب” يصوّب ماسورة المسدّس نحو الشّابّ ذي العينين الكبيرتين وهو يلتهم الثّعبان الملفوف بخبزه حتّى ازرقّ وجه الشّابّ، وسقط على الأرض”(7)
كان المسدّس قد تحوّل إلى ملكيّته ولكنّه قرّر أن يقتل الشّابّ بثعبان يحشوه في خبزه ويأكله. أليس من الإغراب أن يأكل الواحد موته؟
ومن السّلوك الإغرابيّ لــ:”علي كلاب” ما يأتيه مع ملازميه وما يوجّهه إليهم من إهانات وما يجرؤ عليه معهم من عنف:
-” سكّر الباب يا كلب سكككككككككر.
كان الملازم الذي أطلّ برأسه من الباب قد سحبه في آخر لحظة قبل أن تدركه منفضة السّجائر البلّوريّة التي لوّح بها “علي كلاب” نحوه….

  • مجنون هذا ! مجـــنون ! إلى متى سنتحمّله؟ منذ أن عاد، عاد مجنونا.
    الملازم الثّاني: هاها، ما كان عليك أن تتوجّه إليه الآن.
    الملازم الأوّل: لكنّه أصبح لا يطاق…” (8)
    ومن الإغراب في رواية الرّياحي أن يكون صوت غسّالة الأثواب وهي تدور أمارة على الحياة :” كثيرا ما أقول لنفسي: مادامت الغسّالة تدور ، فهذا يعني أنّني حيّ.” (9)
    فالوجود الذي ربطه الفلاسفة بالتّفكير (أنا أفكّر ، أنا موجود) يصبح لدى كمال الرّياحي مرتبطا بصوت غسّالة تدير داخلها أثوابا متّسخة في سخريّة خفيّة من الفكر والتّفكير والفلسفة والكتابة والقراءة والثّقافة والدّين وفي تمجيد لليوميِّ التّافه والرّوتين القاتل وكلّ مجهود أو عمل لا يمتّ لإعمال العقل بصلة وتكفي لتتبّعه حاسّة من الحواسّ كالسّمع أو الشمّ أو البصر. ما بين (أنا أفكّر، أنا موجود) و(الغسّالة تدور ، أنا حيّ) مساحة أو مسافة أو علاقة لا يمكن إلّا أن تتّسم بالإغراب.
    ومن الإغراب أن يُـترك المتورّطون في الاغتيالات – من عُرف منهم ومن لم يُعرف- ويقع تجاوزهم جميعا ليُساءل في الأمر مسدّسٌ. أَكانَ ذلك لأنّ الأمل في كشف الحقائق التي اغتيلت كما اغتيل شكري بلعيد وآخرون معقود على الآلة الصّمّاء لا على البشر النّاطقين؟ أَكانَ ذلك لأنّ البيريتا إن تكلّم سيتكلّم صدقا ولأنّ البشر جُبلوا على الخداع والكذب؟: «من أنت؟ من قتلت قبلي أيّها المسدّس اللّعين؟ هل فعلا فعلتها؟ أيّها الحديد، وقتلته؟ ألم يرتعش لك زناد وهم يصوّبونك نحو رأسه؟ لماذا لم تتقيّأ تلك الرّصاصة التي حُشرت في أحشائك لتطلَق على ذلك الرّأس الكبير الضّاجّ بالأغاني؟(10)

الإغراب في بنية الرّواية:
وفي “البيريتا يكسب دائما” اتّسمت البنية بإغراب تمثّل خاصة في إهمالها المتعمّد عنصر السّرد الذي يكوّنُ مؤتلفًا مع الحوار والوصف لَبِناتِ العمل السّرديّ. نحن إزاء رواية عمدت منذ سطورها الأولى إلى فسح المجال أمام شخصيّاتها فأصبحت الأحداث تتقدّم من خلال الحوارات وامّحى السّارد وتخفّى مختارا إدارة روايته من بعيد وتركِ الحرّية لشخصيّاته التي أنشاها تفعل بحكاياته ما تريد فتقدّم وتؤخّر وتنقد وتقيّم وتعاقب وتُجازي فيما هو كالمُغيّب تماما أو كالمُستقيل أو كالغريب عمّا يُحاكُ ويجري. ولعلّ عنصر الإغراب هذا أبان على أنّ رواية كمال الرّياحي جاءت بوليفونيّة بامتياز، فحضرت فيها الحواريّة بأوجُهها الثّلاثة المعروفة: القائمة بين الخطابات حيث نرصد حضور النّصوص الغائبة في النّصوص الحاضرة وما يقتضيه ذلك من استدعاء لأصوات سابقة استقاها الرّاوي وشخصيّاته من النّصوص المقدّسة وممّا قاله الشّعراء وممّا تداولته الأساطير والخرافات والأمثال الشّعبيّة وما تحتويه ثقافة الإشهار من لافتات ومن بلاغات وما يروج في وسائل الإعلام المختلفة… والحواريّة التّخاطبيّة ماثلةً في ما يجري بين المتخاطبين من حوارات في تأكيد على أنّ المتكلّم لا يتوجّه بخطابه إلاّ وهو يسوّي على حدّ قول الأستاذ “محمّد الخبو” صورة لمن يخاطبه بما يجعل الكلام مشتملا على صوت قائله وصوت متقبّله… والحواريّة النّقليّة وهي القائمة في الأقوال المنقولة أي التي يتمّ نقلها من وضعها الأصليّ لمّا قيلت أوّل مرّة إلى وضع جديد، لتثبت أنّ القول المنقول يشتمل على صوت قائله وصوت من تولّى بعد ذلك نقله وتنبّه إلى ما يشوب القول بانتقاله إلى سياق جديد من تأثّر ومن تحوير يكون مقصودا ويكون عفويّا وذلك بحسب مقاصد النّاقل ونواياه.(11)
إنّ هذا التّخلّي عن السّرد وعن حشو دماغ القارئ بالأحداث والوصف الطّويل الثّقيل وعن معاملته على أنّه وعاء فارغ يجب أن يُملأ بالحكايات أو طفل عنيد يجب أن يستمع لما يهدّ انتباهه ويقوده إلى النّوم أو غافل لا يعرف شيئا وعلى الكاتب أو الرّاوي أن يعلّمه ويعظه ويقصّ عليه القصص… إنّ هذا كلّه لَيُعَدُّ وجها إغرابيّا إذ به تخلّت رواية كمال الرّياحي عن لونٍ طالما رافق الرّواية العربيّة معلنة دخولها منعرجا جديدا الأولويّة فيه لصوت الشّخصيّة، والأحداثُ فيه تنساب من خلال الكلام المقول لا من خلال السّرد المفروض المسطّر سلفًا والسائرِ بتدرّج نحو خاتمةٍ يفرضها السّارد فرضًا.
وقد بدت رواية الرّياحي بهذا الوجه الإغرابيّ أقرب الى الكتابة المسرحيّة أو المشهديّة أو التّلفزيّة: فنحن نقرأ مثلا: “خمسة رجال ببدلات سوداء وقمصان بيضاء دخلوا توّا الشّقّة. التحق بهم علي كلاب. (12)
أو: “الملازم الأول :هل عرفتما للّا بيّة التي كنّا عندها الّليلة البارحة؟
الملازم الثّاني:هل لاحظت أنت أيضا؟
الملازم الثّالث؟ عمّا تتحدّثان؟(13)
خــاتمة:
قرأنا رواية كمال الرّياحي الجديدة فأغرتنا بالكتابة عنها مباحث عديدة منها التعدّد الصّوتي ومنها حضور الرّوائيّ والتّاريخي ومنها وجوه المسكوت عنه … ولكنّ الجانب الذي ألحّ علينا كان المتعلّق بما في الرّواية عنوانًا وبنيةً وشخصياتٍ وسلوكًا من إغراب اجتهدنا في رصده وإثباته وتحليله ونقاشه.
ولقد عددنا الرّواية إغرابيّة لأنّها جعلت ما ليس أدبيّا أدبيّا وروت أحداث الاغتيالات دون أن تسقط في النّقل المباشر ولا الفجّ ودون أن تعيد حكاية ما يعرفه النّاس جميعا ودون أن تتمسّك ببنية الرّواية التّقليديّة، إنّما هي اتخذت لها منفذا مغايرا ولغة مختلفة وصوّرت السّواد المنتشر بطريقة لا تشبه الطّرق الأخرى وأدانت ونقدت وكشفت وفضحت دون أن يظهر لراويها رأي ولا تدخّل في الأحداث ولا سطوة على شخصيّاته ولا حتّى وجهة نظر. لقد عددناها إغرابيّة لكثرة وجوه الإغراب التي انتشرت فيها ابتداءً بالعنوان وصولا إلى الأحداث مرورا بالشّخصيّات وبالبنية، ففي ذلك كلّه وقفنا على ما اختلفت فيه الرّواية الجديدة عن سابقتها شكلا ومبنى.
ولقد عددنا “البيريتا يكسب دائما” ذات لون إغرابيّ لما بثّته فينا من شعور بالغرابة لمسناه في اللّغة التي تجاوز همّها الأناقة إلى الفتنة وفي الأحداث التي يعترف القارئ بينه وبين نفسه وهو يتابعها أنّها لا تخطر على ذهنه أبدا وفي الرّبط بين الصّفة والموصوف بأسلوب نصاب معه بالاندهاش وفي الثّوب الجديد الذي لبسته البنية فأقام الفرق بين أثواب لم يعد يلبسها أحد وباتت من التّراث وأثواب عصريّة يتابعها النّاس ويولعون بها ويتهافتون عليها.
ولئن كان رصد الأوجه الإغرابيّة عملا قصدناه قصدا، فلم يكن هو الهدف الذي سعينا إليه من وراء هذه القراءة، إنّما الهدف الأصليّ والذي قد يبدو خافيا غير معلَن هو الإعلاء من شأن الرّوايات التي تقترف إثم العدول عن السّائد وتخرج عن الاصطفاف وراء السّرد البسيط السّطحي الهادئ المتوجّس خيفة من المغامرة والخالي من الإدهاش والإرباك والذي يفتقر إلى قيمة أساسيّة هي احترام قارئ اليوم الذي لم يعد قارئ حكايات تُحكى ولا خرافات تعوّض حبوب النّوم ولا ملاحم تثير المشاعر ولا قصص لها بدايات معلومة تسير نحو خواتم مقدّرة لها.
إنّ رصدنا لوجوه الإغراب في رواية الرّياحي هو تقدير للسّرد الذي يُنهكُ من يكتبه ويبثّ السّؤال والفوضى والحيرة في من يتلقّاه ويضيفُ إلى المدوّنة الرّوائية من جهتيْ المبنى والمعنى والأدوات والتّقنيات بما يجعل الرّواية العربيّة تغادر كلّ أوجه الجمود وكلّ ما كانت عليه من خجل ومن تردّد وتغيّرُ باستمرار ثوبها لتُسايرَ الجديد والمستجدَّ وتأتيَ في كلّ مرّة بما لم تأت به روايات كُتبت قبلها.
إحالات:
1 – محّي الدّين حمدي، الإغراب في الرّواية العربيّة الحديثة، ص 14
2 – ن.م. ص 14
3 – ن.م. ص16
4 – ن.م . ص 50
5 – كمال الرياحي، البيريتا يكسب دائما/ رواية-دار المتوسّط-2020
6 – الرّواية، ص 48
7 – الرّواية، ص 124
8 – الرّواية، ص 18-19
9 – الرّواية.،ص230
10 – الرّواية ، ص 82
11 – انظر: محمّد الخبو، مدخل إلى قصصيّة المعنى- دار علاء الدّين-صفاقس 2016
12 – الرّواية، ص 7
13 – الرّواية، ص 21

عن مجلة الحياة الثقافية

هذا المنشور نشر في غير مصنف. حفظ الرابط الثابت.

أضف تعليق