اميلي نوثومب تحرق الكتب على الركح التونسي

بيت الخيال. كمال الرياحي ، تونس

15174479_10154784886979874_7141403_nبعد مسرحية “الكونترباص” لباتريك زوسكيند و”الرهيب” لعبد القادر اللطيفي و”العساس” للبريطاني هارولد بنتر وغيرها من المسرحيات المقتبسة من عالم الكتب والمسرح العالمي، يعود المخرج والممثل التونسي منير العرقي ليواصل  تجربته المسرحية ذات الخصوصية الأدبية باقتراح جديد على المسرح التونسي أصله عمل مسرحي  للروائية البلجيكية الشهيرة أميلي نوثومب ” المحروقات” والتي سبق وقدمت في مسارح عالمية كثيرة تعكس قيمة ذلك النص القصير الذي لا يتجاوز المائة صفحة في طبعته الفرنسية  للجيب والتي حولها  للعامية التونسية المترجم رضا بوقديدة بعنوان “اللهليبة” ليتكفل منير العرقي بالدراماتورجيا والسينوغرافيا والاخراج .

الحكاية

  15151374_10154784886954874_280724006_nتروي المسرحية  قصة أستاذ جامعي  ومساعده والطالبة حبيبته  الذين يقبعون في بيت البروفوسور يتناقشون حول الأدب والكتب التي تضطرهم الحرب وقسوتها  أن يضحوا بها ويحرقوها  ليقاوموا ذلك البرد القاسي، ومن خلال هذا الجدل حول فكرة التضحية بالكتب من أجل الحياة  وبالأدب من أجل الواقع  تتناسل الأفكار العميقة حول الإنسان والقيمة والعلاقات البشرية.

تندلع اللهليبة عبر ثلاث شخصيات فقط في غرفة باردة: دكتور في الآداب  هو البروفوسور والذي يؤدي دوره منير العرقي ومساعده أستاذ الأدب عدنان وأصله في النص دانيال والذي  قام بدوره الممثل نور الزرافي وحبيبته الطالبة حنان وأصل اسمها في النص مارينا  وتقوم بدورها الممثلة ميساء ساسي.

تتفرع النقاشات  وتحتد عبر الكتب التي تستحوذ على فضاء البيت/ الركح، من نقاشات أدبية حول قيمة كتب وكتاب بعينهم إلى علاقة تلك الكتب وضرورتها بالنسبة إلى وضعيتهم والتي تلخصها  الطالبة في حاجتها إلى الدفء بعد أن تترك بيتها الذي قصف ولم يعد أمامها إلا الاستنجاد بحبيبها الأستاذ المساعد الذي بدوره يستجير باستاذه الذي يتظاهر كل الوقت أنه يئس من القيم وأنه يحتاج إلى شيء من البشاعة ليتناغم مع الواقع.

وهنا يقبل الأستاذ الشهواني أن تلتحق بهما الطالبة النحيفة ،التي تشتكي طوال الوقت من البرد، وأمام حاجة الطالبة إلى الدفء والهروب من البرد وحاجة البروفسور الخمسيني إلى شباب يعيد له الحياة  يسقط الحب الجميل الذي رباه عدنان وحنان أمام بشاعة براغماتية مقيتة؛ كرش دافئة لكهل يتقدم نحو الشيخوخة وجسد فتاة يرتجف بردا. في المقابل تكتمل الصورة السوريالية للانحطاط: كتب تقذف نحو المحرقة التي تسمى تجاوزا مدفئة.

الكتب في مواجهة العدم

15183898_10154784888494874_1049716970_oإن موضوع حرق الكتب موضوعا أثيرا في الآداب والفكر العالميين ومنذ محارق مكتبة الاسكندرية  وحرق أعمال ابن رشد إلى محارق اليوم الرقمية مرورا بمحارق الكتب في الفترة النازية ووصايا الكتاب بحرق كتبهم ككافكا واقدام التوحيدي على حرقها بنفسه تحول حرق الكتب إلى تيمة أدبية وفنية.

 15152457_10154784888644874_95385835_oولعل أشهر الأعمال التي تناولت الموضوع قبل نوثومب الأمريكي راي برادبوري في “فهرنهايت 451” وبطلها غاي مونتاغ الاطفائي المختص في حرق الكتب الممنوعة، تبقى النار هي العدو الأول للورق، ولكن هذه المقاربات تبقى مختلفة حسب بيئتها وتطرح في سياقها وعصرها كالرقابة الدينية والعرقية أو يأس الكتاب ومراجعاتهم الذاتية، فما الذي قدمه منير العرقي في اقتباس هذا النص ولماذا الآن بالذات؟

تقارب المسرحية  في أصلها واقع الكتب والأدب تحديدا في مواجهة العدم المتمثل في الخراب الذي تحدثه الحرب. ولكن المخرج منير العرقي يحولها باشارات وايماءات صغيرة إلى واقعنا التونسي بعد الثورة فنحن  نعيش تماما في قلب هذا الانحطاط للقيمة واعلاء للكيتش وهذا الاستعداد  الكامل للتضحية بكل ما هو حميمي وقيمي وانساني مقابل مكاسب فردية  آنية. إننا في عصر الأنانية الكاملة التي تسيطر على المشهد التونسي والعربي بشكل عام أثناء الأزمات. فالحرب الإطار العام للنص الغربي معادلها في خلفيات تلقي النص المسرحي التونسي  الربيع العربي بثوراته وانتفاضاته وحروبه التي عصفت بكل شيء حتى بالخاص  جدا.

هكذا تتبدى لنا غرفة  البروفوسور فضاء لتربية العدم واللانساني بوأد الكتب، فإذا كانت الجنة مكتبة كبيرة كما تخيلها غاستون بشلار وبورخيس فإن الجحيم هو المكان الذي لا كتاب فيه.

المعالجة الفنية

إن طبيعة هذه المسرحية التي ليست سوى دعوة للتأمل والتفكير لا تتحمل أي بذخ في السينيغرافيا، ولذلك وإن بدت المعالجة فقيرة فإن المتأمل في العمل ككل سيلاحظ أنها تحتاج هذا التقشف في الإضاءة وفي المؤثرات الصوتية، فلا نحتاج في هذا البيت إلا إلى أضواء خافتة أو ظلام دامس يتحرك فيه الأبطال بمصابيح كهربائية يدوية وبعض أصوات القنابل  التي تنزل هناك وهناك تذكرنا بأجواء الحرب لتثري الخراب الداخلي  الذي أتى على كل أثاث البيت ليكون الكتاب آخر الضحايا أو آخر المقاومين لذلك الخراب.15204274_10154784888519874_965582553_o

إن هذا العمل المسرحي، الذي قدم فيه الممثلين الثلاث أداء متميزا يحسب لهم، أعمق مما يبدو وأحسب أنه مثال للأعمال المسرحية التي عليها أن تقدم لهذا الشباب العربي الذي تحرقه الحروب والهجرات السرية وغير القانونية بعد أن اغتالوا طموحاته التي كانت الدفء الذي يجعله يحلم ويستمر ليبدع. فقد اغتيلت أحلامه عندما تحولت العلاقات إلى علاقات براغماتية غاية مادية وتفشى الغش والنفاق والزيف حتى في برامج التعليم  التي تجعل أستاذا جامعيا يقدم كتابا فاشلين مرغوبا فيهم من السلطة ويضطر لقمع نفسه بالتوقف عن قراءة المتميزين والعباقرة خوفا من مزيد الوعي، فقد آمن أن الغباء هو الحل، “التصطيك” هو الحل، لذلك يصرخ في مساعده ” علاش تمتنعني بأني نكون مصطك”. في اشارة لانقلاب العين، وانقلاب المفاهيم والقيم، فالغباء طموح صعب يحتاج مكابدةلكي ننسجم مع العالم كما يجب بينما أصبحت المعرفة الحق مجلبة للضحك والسخرية لذلك وجب حرقها والتخلص منها فلا قيمة لها إلا وهي تحترق لتعطي بعض الدفء الحرفي للبشر.

لا أدري هل خامرت المخرج منير العرقي فكرة  تعريب  أسماء الأعلام من الكتاب الكلاسيكيين الذين وردت أسماؤهم في النص الفرنسي؟ وهل يجوز تغييرها بمعادلات عربية  كالتوحيدي  والمعري  والنفري  وابن عربي والجاحظ وغيرهم من الأدباء والشعراء العرب ليكون الجمهور أكثرتفاعلا مع أفكار المسرحية التي تخاطب أحيانا ذاكرة القراء / الجمهور.فأسماء الأعلام في المسرحية تضطلع بأدوار رمزية وتواصلية لفهم السياق اللفظي الذي يحيط بها. كما ارتبطت المسرحية بواقع البرامج التعليمية الجامعية، وفكرة الاستعاضة بالأسماء الأجنبية للأبطال بأسماء عربية سيعمق الايهام بالواقعية  ويجعل النص الجديد  متماسكا ومتناغما ويؤرضنه في بيئة التلقي الجديد. 15146638_10154784888614874_1916918218_o

 بقي أن نشير أن هذا العمل، اللهليبة، هوعمل آخر يؤكد الهوة الكبيرة بين الواقع المسرحي في تونس والواقع الدرامي التلفزيوني الذي أصبح شبيها بالمحرقة وبتلك الطالبة البراغماتية المستعدة للتنازل عن كل شيء مقابل الشعور بالدفء؛ لذتها الخاصة وحاجتها الخاصة. فأي شيء مباح في الأعمال الدرامية اليوم من أجل تجنيد الأموال من الاشهار، وعوض أن نسأل كما المسرحية عن الكتاب الذي علينا أن نعفيه من الحرق أو نوقف الحرق دونه، سنسأل عن الذي بقي خارج البيع والتنازل بعد سقوط ورقة التوت بالدراما التونسية؟

  

 

هذا المنشور نشر في مسرح. حفظ الرابط الثابت.

أضف تعليق